المهدوية
الروضة و الحضرة
السيد الإمام
محمد مهدي بهاء الدين علي الصيادي
"الـرواس"



إصبر يا مريد حتى الله يريد
*الحلقة الأولى*
بسم الله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه.
أما بعد:
قال سيدنا الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه و أرضاه:
((كنت في المسجد، فدخل رجل فصلى، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ، فحسّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسُقط في نفسي من التكذيب ولا إذْ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري، ففِضت عرقا، وكأني أنظر إلى الله عز وجل فرقا))
(صحيح مسلم)
إن هذا الحديث العظيم المعنى الشريف المغزى يدلنا على مدى العلاقة العظيمة التي كانت بين سيدنا رسول الله عليه صلوات الله و بين أصحابه الطيبين الطاهرين عليهم رضوان الله أجمعين. فكان جُل إهتمام النبي الأعظم صلى الله عليه و سلم في أثناء حياته هو رفع همم أسيادنا الصحابة الكرام و تطهير قلوبهم و تزكية نفوسهم و تجلية صدورهم بحاله و قاله صلى الله عليه و سلم. و كذلك نوابه و وراثه من بعده عليه الصلاة و السلام قد قاموا و ما زالوا يقومون بهذه الخدمة الشريفة في إحياء همم المحبين الصادقين. نعم، لم نعد نراهم ظاهرين اليوم كما كانوا سابقاً و ذلك لكثرة الفتن و اشتداد المحن و كثرة المدعين و المكذبين و المشككين بهذه العلاقة الربانية. حتى أن كثيرا من المسلمين اليوم لم يعودوا يؤمنوا بهذه العلاقة، أعني صحبة رجال الله تعالى و السلوك على يديهم للوصول إلى أعلى المراتب. و كل ذلك سببه هو كثرة الدجالين المدعين للمشيخة و التصدر و التحدث بإسم الدين و قد أشار إليهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال:((إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلّين)).
و لهذا يقول إمامنا سيد العارفين و مرشد السالكين سيدنا محمد مهدي آل خزام الصيادي الرفاعي الثاني الشهير بـ (الرواس) قدس سره في كتابه (مراحل السالكين):
و المجددون من أهل العلم (قليلون) … و لا تزلق فترى من كَثُرَتْ أتْبَاعه و انْتَشَرَتْ أشياعه من المجددين! كلا بل المجدد: من ظهرت على يديه (أسرار) إحياء السُّنة و إماتة البدعة و شرفت أفعاله و سلمت من الزيغ أقواله و صح بالإتباع المحمدي حاله.
(انتهى)
مما لا شك فيه أن علماء الشريعة و الحقيقة لم يبخلوا في تآليفهم عن علاقة الشيخ و المريد. إذ لا تكاد تجد كتاباً لهؤلاء الأئمة إلا و خصّ من كتابه جزءاً أو فصلاً تحدث فيه عن علاقة الشيخ بالمريد. و ما أحوجنا اليوم لهذه العلاقة المهمة، فإن الصحبة في الله تعالى أوثق عرى الإسلام و من أكبر أبواب الخير و قد رغّب العلماءُ فيها سلفاً و خلفاً.
و قد قيل في مدح صحبة أهل الله تعالى:
ما لذَّةُ العيش إلا صحبة الفقراء
همُ السلاطينُ و الساداتُ و الأمراء
فاصحبهُم و تأدب في مجالسهم
و خلِّ حَظَّكَ مهم قدَّموكَ ورا
إن علاقة الشيخ بالمريد هي علاقة دقيقة لذا وجب على المريد أن يفهم الكثير من المعاني و الأسرار لكي يصل إلى لب تلك الحقيقة. و في ذلك يقول الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين):
فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض وسُبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سبيل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على القرب، وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر.
(انتهى)
قال تعالى:((قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا))
و قال تعالى:((قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا))
و قد استند بعض أهل العلم في علاقة المريد بالشيخ إلى قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام، والأكثر من ذلك أنهم أخذوا منها الحوار الرائع الذي دار بينهما، وضرورة الأدب الجم لطالب العلم وإن كان في مرتبة الأنبياء، واعتُبِرت قواعد الخضر لسيدنا موسى عليهما السلام أساسا لا بد أن يتخلق به المريد مع شيخه في الطريق.
وفي ذلك قال السهروردي رضي الله عنه:
وينبغي للمريد أنه كلما أشكل عليه شيء من حال الشيخ يذكر قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام، كيف كان الخضر يفعل أشياء ينكرها موسى، وإذا أخبره الخضر بسرها يرجع موسى عن إنكاره، فما ينكره المريد لقلة علمه بحقيقة ما يوجد من الشيخ، فللشيخ في كل شيء عذر بلسان العلم والحكمة.
(انتهى)
و ختاماً، اعلم أي أخي المهتم أن المريد لا ينتفع بعلوم الشيخ وأحواله إلا إذا انقاد له الانقياد التام، ووقف عند أمره ونهيه، مع اعتقاده الأفضلية والأكملية، ولا يغني أحدهما عن الآخر، كحال بعض الناس يعتقد في الشيخ غاية الكمال ويظن أن ذلك يكفيه في نيل غرضه، وحصول مطلبه، وهو غير ممتثل ولا فاعل لما يأمره الشيخ به، أو ينهاه عنه.
وفقني الله تعالى و إياكم إلى ما فيه الخير و الرشاد لجميع العباد.
… يتبع