
المهدوية
الروضة و الحضرة
السيد الإمام
محمد مهدي بهاء الدين علي الصيادي
"الـرواس"



إصبر يا مريد حتى الله يريد
*الحلقة الثانية*
بسم الله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه
أما بعد:
((إصبر يا مريد حتى الله يريد)) هذه جملة وجدتها مكتوبة على حائط فوق مدخل أحد مقامات الأولياء الصالحين في منطقة معرة النعمان في سوريا المباركة - حرسها الله - حين منّ الله تعالى علي بزيارة تلك البلاد و القرى المباركة بأهلها الأولياء الأموات منهم و الأحياء و كان ذلك في عام ٢٠٠٦ ميلادي. و قد بقيت هذه الجملة عالقة في ذهني تشغل بالي و فكري إلى يومنا هذا. لا شك إن للصبر معانٍ كثيرة
الصبر لغةً: الصَّبْرُ - صَبْرُ : التجلُّد وحسن الاحتمال . و الصَّبْرُ عن المحبوب : حَبْسُ النفس عنه . و الصَّبْرُ على المكروه : احتماله دون جزع . وشهر الصَّبر : شهر الصوم ، لما فيه من حَبْس النفس عن الشهوات
و قد قيل أن الإيمان نصفان: صبر و شكر، و لهذا كان حريا على المريد الصادق أن يعرف معنى الصبر و يتحلى به. و لا بد أن يمر المريد كما سنذكر لاحقاً بإمتحانات كثيرة خلال مرحلة السلوك على يد الشيخ المربي، كل ذلك ما هو إلا لصقل روح المريد و تهذيب نفسه ليسير في ركب أهل الله تعالى تصديقا لقوله عز و جل:
((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ))
فلما كان الصبر في البداية سبباً رئيساً للهداية و الوصول إلى أعلى المراتب و تسلق سلم الرقاية، أحببت أن أضع بين يدي الأحباب و الطلاب كلام ساداتنا الأكابر بخصوص هذا الموضوع و ما يجب على المريد أن يتحلى به كي يُحسب في عداد السالكين الصادقين الناجحين في سلوكهم إلى الله تعالى. و إذا نظرت حولك اليوم ربما تتيقن أنه نادرا ما تجد من يتحلى بصفات المريد الصادق إذا ما قارنت صفاته بالصفات التي يجب أن يتحلى بها المريد و التي وضعها أهل الله تعالى كشروط للدخول في الطريق.
نقل العلامة الفهامة سيدنا القطب الغوث محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي قدس سره في كتابه (قلادة الجواهر) قصة للإمام العارف الرباني و الغوث الكبير الصمداني الباز الأشهب سيدنا عبد القادر الجيلاني قدس الله سره و رضي الله عنه حين جاءَهُ مرة فقير يطلب منهُ أن يلبسه الخرقة فنظرَ إليه و قال:
يا ولدي، التلبيس في الأمور ما هو جيد فانهُ لا يصلح للبس الخرقة الا من درستهُ الأيام و قعتهُ الطريق مجهدها و اخلص في معاملتِه و قرأ معاني رموز الطريق و نظر في اخبار أهلها و عرف مقاصدهم في حركاتهم و سكناتهم و اسفارهم و اخلاقهم. فان كنت يا ولدي تعقد التوبة في هذا الوقت فلا تكن مجاناً و لعاباً و لا صبي العقل. فما الأمور بقول العبد تبت إلى الله باللفظ دون القلب و لا بكتابة الورق و الدرج انما التوبة ان يتوب العبد عن ان يلحظ الكون بعيني قلبِه.
(انتهى)
و قال أيضاً رضي الله عنه:
ما بنيت طريقنا هذه الا على النار و البحر الهدار و الجوع و الاصفرار ما هي بالمشدقة و لا بالفشار ، دعونا من هذه البطالات فما وجدنا من اولادنا الى هذا الوقت احداً اقتفى آثار الرجال و لا صلح ان يكون محلاً للاسرار فآهٍ آهٍ من هذا الزمان الغرار!!!
(انتهى)
و لهذا فمن يتمعن بما قاله سيدنا الجيلاني رضي الله عنه يعلم تماما معنى كلام أهل الله تعالى حين قالوا: ((أهل السلوك ملوك))، و هذه الجملة لا يعلم المريد فحواها و معناها حتى يذوق طعمها خلال سلوكه على يد المرشد الكامل الموصول تسلسلاً بحضرة الرسول صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم.
و لهذا وجب على المريد أن يعلم و يفهم ما هي وظيفة المرشد الدال على الله تعالى في تربيته لمريديه؟ فإنّ فهم تلك الوظيفة توصلك إلى معرفة و استيعاب قواعد الطريقة و أسرار علوم الحقيقة.
يقول العارف بالله السيد عبد الوهاب الشعراني قدس سره في كتابه (الأنوار القدسية):
إن وظيفة الشيخ إنما هو (غرس النواة)، و على المريد كثرة الذكر، و الأعمال المرضية، ثم إن أبطأ فتحُ المريد فذلك إلى (الله) لا إلى (الشيخ)، فحكم هذا المريد (البارد الهمة) كحكم القطن الذي يقدح فيه الزناد، فإن كان جافاً علق فيه القبس و إلا طفى كل قبس نزل فيه من شرر النار فافهم!
ثم إذا تلقن المريد و حصل منه معصية أو سوء أدب فالواجب عليه إعادة التلقين ليخرج الشيطان من مدينة جسده و قلبه إذ التلقين يخرج الشيطان، و سوء الأدب يدخله!
و هذا الأمر قد كثر في مريدي هذا الزمان (و كان ذلك في القرن التاسع عشر للهجري!!) و ما منهم أحد يجدد التلقين على شيخه فعدموا النفع و صاروا أجساداً بلا أرواح كأنهم خشب مسندة، فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(انتهى)
فاسأل نفسك يا من تدعي أنك محسوب على القوم المبرئين من اللوم! أين هو حالك من هذا الكلام. فتشك نفسك بنفسك فستجد الجواب اليوم.
يقول إمامنا و مجدد طريقتنا في القرن الثالث عشر الهجري سيدنا محمد مهدي آل خزام الصيادي الرفاعي الثاني الشهير بـ (الرواس) قدس الله سره في كتابه (مراحل السالكين):
إن أمر الدين يحتاج إلى التجديد لِما يطرأ من أولي الإهمال و الجهالة عليه، و لما يضيفه أرباب الأحقاد مما لم يكن منه إليه، يشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم:((إن الله تعالى يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها)) (رواه الحاكم في المستدرك).
هذا لما يطرأ على الدين من موجبات التجديد، ثبت عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول:((أنتم اليوم في زمان الهوى فيه تابع للعلم، و سيأتي عليكم زمان يكون فيه العلم تابعاً للهوى)). و قد قال رضي الله عنه:((أكيسهم في ذلك الزمان الذي يروغ بدينه روغان الثعالب!!)).
(انتهى)
لقد جعل الله تعالى في هذه الدنيا منارات في جميع أنحاء المعمورة يستدل بها السالك إلى خالقه. هذه المنارات عبارة عن رجال هداة مهديين، و هم على دين الله راعون و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم يحافظون تصديقاً لقول الله تعالى:((وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )) وقوله تعالى: (( وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوَارِثِينَ)) و الحمد لله رب العالمين.
و اليوم نرى الكثير من المنتمين للطرق الصوفية في ضياع و شتات و قلة همة في الطاعة و العبادات. و السبب الرئيسي في ذلك هو قلة إعتقاد سلاك الطريق اليوم بمشائخهم الذين سلكوا على أياديهم و قلة الإعتقاد بقربهم إلى الله عز و جل و كل ذلك بسبب كثرة شياطين الأنس و الجن و كثرة الفساد المنتشر بين عامة الناس.
أين تكمن المشكلة اليوم في العلاقة بين الشيخ و المريد؟ و ما هي الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى نقصان همة المريد السالك أو ربما إلى طرده من الطريق كلياً و التعرض و العياذ بالله إلى المهالك؟ فقد قيل: من لا شيخ له فشيخه الشيطان. فاحذر أيها المريد أن يكون شيخك هواك أو شيخك الشيطان.
يقول العارف بالله السيد عبد الوهاب الشعراني قدس سره في كتابه (الأنوار القدسية):
إن وظيفة الشيخ أنه يستخرج للمريد ما هو كائن فيه، فإن الله تعالى قد بثَّ في كل روح جميع ما يتعلق بصاحبها من المحامد و المذام، فما أمره شيخه أو نهاه عنه إلا و هو كامن في روحه، و ليس مع الشيخ شيء يعطيه للمريد خارجاً عنه، فإن حكم المريد في ابتداء أمره، حكم النواة الكامن في النخلة التي هي هنا عبارة عن (الصدق) في الطريق أو الكذب فيها.
فإن كان (صادقاً) تفرَّعَتْ ثمرة صدقه و أصدقت حتى تشرف على جميع جيرانه و يأكلون من ثمرتها، بل تنتشر إلى جميع أهل بلده أو إقليمه و ينتفعون بها، و يظهر صدقه و صلاحه للخاص و العام، حتى أنه لو أراد كتمان صلاحه عنهم لا يقدر.
و إن كان المريد (كاذباً) في محبته للطريق تفرعت شجرة كذبه و نَصْبهِ و نفاقه حتى تشرف على جميع جيرانه و بلده و إقليمه، و يظهر لهم كذبه و نفاقه و رياؤه، حتى لو أراد أن تظاهر بصورة الصادق لا يقدر على ذلك، لأن أفعاله الرذيلة تكذب دعواه، و يفتضح و ترفضه الطريق، حتى تلحقه بفقه العوامِّ عقوبة له على كذبه على طريق الله عز وجل، و ربما أعطاه الله تعالى (رائحة من الصدق) ثم سلبها منه.
(انتهى)
في الحلقة القادمة سننقل لكم كلام لسلطان الأولياء أبي العلمين سيدنا أحمد الكبير الرفاعي قدس سره يصف فيه مراحل السلوك و ما يتعرض له المريد من عقبات حين يتخطاها يصل بفضل الله إلى مرتبة الملوك. نسأل الله تعالى لنا و لكم الثبات في السير في طريق أهل الله تعالى حتى الممات.
...يتبع